الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومما يدل على هذا قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} الآية 7 من سورة الطور الآتية، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم: «البحر طباق جهنم» وقد أسهبنا البحث في هذا في الآية 27 من سورة الحجر المارة فراجعها، وفي هذه الآية معجزة من معجزات القرآن أيضا، إذ لم يكن عالم أو فيلسوف في ذلك العهد أخبر حضرة الرسول أن هذا الكون كان بادىء بدء مملوء بالسديم أي الأثير والهيولى، مع أن هذه القضية لم تعرف إلا بعد نزول القرآن بمئات من السنين.والدخان أجزاء أرضية لطيفة ترتفع بالهواء مع الجرارة، والبخار أجزاء مائية ترتفع في الهواء مع الأشعة الراجعة من سطوح المياه، فعبر بالدخان عن مادة السماء أي الهيولى والصورة الجسمية أو عن الأجزاء المتصغرة المركبة منها أي الأجزاء التي لا تتجزأ.ولما كان أول حدوثها مظلمة سميت بالدخان تشبيها لها به من حيث أنها أجزاء متفرقة غير متراصة ولا متواصلة عديمة النور، أشبه شيء بالدخان.أما الإستواء فقد تقدم توضيحه في الآية 54 من سورة الأعراف والآية 5 من سورة طه المارتين في ج 1، وهو متى ما عدّي بعلى يكون بمعنى الاستيلاء والاستعلاء كقوله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} الآية المذكورة من طله، ومنى ما عدي بإلى كما هنا يكون بمعنى الانتهاء، فاحفظ هذا وتذكره عند كل جملة من هذا القبيل، وراجع بيانه فيما أرشدناك إليه من المواضع.قال تعالى: {فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} وهذا تمثيل لتحتيم قدرة اللّه تعالى فيها واستحالة امتناعهما المشعر به {قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} 11 فوجدتا كما أرادهما اللّه تعالى، وجاء الجمع بلفظ العقلاء لأنه تعالى لما خاطبهما بأوصاف العقلاء أجراهما في الجمع مجرى من يعقل، ونظيره {ساجِدِينَ} في الآية 4 من سورة يوسف وهو جمع للكواكب وقد خاطب اللّه تعالى من لا يعقل بصيغة من يعقل في كثير من آي القرآن، لدلك السبب، ولهذا جرينا أيضا على هذا المجرى تبعا لكلام اللّه تعالى ولتلك الأسباب نفسها.وليعلم أن اللّه تعالى خلق أولا الأرض، ثم السماء، ثم دحا الأرض، بدليل قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها} الآية 30 من سورة النازعات الآتية لا انها خلقت بعد السماء بل خلقت قبلها ودحيت بعدها، ولهذا قلنا آنفا في الآية العاشرة إن خلق الأرض في يومي الأحد والاثنين وما فيها في يومي الخميس والجمعة، إذ كان خلق السماء في الثلاثاء والأربعاء تدبر، ولا تغفل.وعلى هذا {فَقَضاهُنَّ} ذلك الإله العظيم كلهن وما فيهن وسواهن {سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها} مما أراد أن يكون فيها مما لا يعلمه على الحقيقة غيره، ولهذا البحث صلة في الآية المذكورة من سورة النازعات الآتية إذ يفهم من هذه الآية أن خلق الأرض ودحوها قبل خلق السماء، وآية النازعات توضح أن الدحو بعد خلق السماء وهو ما أجمع عليه المفسرون وقال الأخباريون وأصحاب السير والمؤرخون: أول ما خلق اللّه التربة، أي الأرض بلا دحو ولا بسط ولا مد ولا تمهيد في يومي الأحد والإثنين، ثم سوى السموات السبع وما فيهن في الثلاثاء والأربعاء، ثم مد الأرض ودحاها وشق بحارها وأنهارها وثقلها بالجبال وجعل فيها فجاجا وأودية في الخميس والجمعة، ثم خلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة أي سوى خلقه من التراب وتركه ولم ينفخ فيه الروح بدليل أول سورة الإنسان وما جاء في الأخبار أن إبليس كان يمر به ويتأمله ويفكر في خلقه، ويقول إنه أجوف لا يتمالك، وهكذا إلى أن أراد اللّه تعالى نفخ الروح فيه فنفخها وصار بشرا سويا، أو أنه خلقه في غير تلك الجمعة التي أتم فيها خلق السموات والأرض، بدليل خلق الجان الذين سكنوا الأرض قرونا كثيرة، ثم فسدوا وبغوا فأهلكهم اللّه ولم يبق منهم طائعا في الظاهر إلا إبليس بدلالة الآية 30 من البقرة في ج 3 فراجعها، وبعد أن خلق اللّه الحيوانات بأصرها والوحوش والأشجار وكل ما في الأرض خلق آدم أي نفخ فيه الروح، لأن كل ما في الأرض خلقه لأجله ولذريته.هذا واعلم أن اللّه تعالى قادر على خلق الكون بما فيه وإبادته في لحظة واحدة، لأنه عبارة عن الأمر بلفظ كن فيكون بين الكاف والنون، قال تعالى: {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} الآية 81 من سورة يس وهي مكررة كثيرا في القرآن في المعنى، وقال تعالى: {وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} الآية 20 من سورة القمر المارة في ج 1، وإنما القصد من خلقها في ستة أيام هو أنه جعل لكل شيء حدا محدودا لا يتعداه، فلا يدخل شيء من مخلوقاته في الوجود إلا بالوقت الذي قدره لدخوله، وانه ليعلّم خلقه التثبت في الأمر والتأني بفعله، قال صلّى اللّه عليه وسلم «التأني من اللّه والعجلة من الشيطان» وانه إذا جعل الشيء دفعة واحدة ظن وقوعه اتفاقيا، وإذا حدث تدريجيا شيئا فشيئا على سبيل المصلحة والحكمة كان أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة، والقول الفصل في هذا وأمثاله هو أن يقال إن أفعال اللّه لا تعلل، ومن علم أنه لا يسأل عما يفعل، وأيقن بالقدرة، وأن الحكيم لا يفعل شيئا إلا عن حكمة، وعلم أن اللّه أحكم الحاكمين حكما وحكمة، سكت وسلم فحفظ وغنم وسلم، وإلا فهو على خطر عظيم حفظنا اللّه ووقانا.وهو القائل {وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ} كواكب مختلفة في الحجم والشكل واللون والضياء والسير {وَحِفْظًا} من الشيطان الذي يسترق السمع، راجع الآية 11 من سورة الصافات المارة {ذلِكَ} الصنع البديع والتقدير العظيم {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 12 البالغ علمه كل خفي وجلي العالم بشئون خلقه كلها وفيما أودعه في مكوناته من الحكم والمنافع والمصالح لعباده {فَإِنْ أَعْرَضُوا} عنك يا سيد الرسل بعد أن أبديت لهم ذلك ولم يعتبروا بما أبدعه ربك من الآيات الدالات على وحدانيته وعظيم سلطانه وبالغ قدرته {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ} 13 وقرئ {صعقة} والصعق الموت خوفا، وذلك أن عادا أهلكوا بالريح وثمود بالصيحة، وإنما أهلكهم اللّه لأنهم حين {إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من كل جانب بمعنى أنهم بذلوا وسعهم وقصارى جهدهم بأنواع الإرشاد والنصح وأنذروهم {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} وحده واتركوا عبادة الأوثان {قالُوا} عنادا وعتوا إنا لا نطيع بشرا مثلنا {لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} يدعوننا لعبادته لأن البشر لا يصلح للنيابة عن اللّه في الدعوة إليه {فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} 14 لا نصدق بما جئتم به ونكذبكم لأنكم مثلنا لا فضل لكم علينا يؤهلكم لهذه الدعوة.
وقال الآخر: إلى أن قال: ولو نطق الزمان لقد هجانا راجع الآيتين 62، 51 من سورة الزمر المارة، ومنه تعلم أن النحس والسعد والصفاء والكدر بتقدير اللّه تعالى لا علاقة للأيام والنجوم والأمكنة وغيرها بذلك، واعلموا أيها الناس إنما أرسلنا عليهم هذا العذاب بالدنيا {لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ} بسبب استكبارهم فيها فيذلوا ويحتقروا {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى} أشد إهانة وأكثر مهانة {وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} 16 منه البتة وكل ما كان من اللّه لا رافع ولا مؤخر له.قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ} قوم صالح {فَهَدَيْناهُمْ} ودللناهم على طريق النجاة بواسطة نبيهم {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} اختاروا الكفر على الإيمان بطوعهم ورضاهم سوقا ورغبة ولم يلتفتوا لدعوة نبيهم عليه السلام ونبذوا نصحه وإرشاده وراء ظهورهم {فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ} داهية وقارعة الذل والمهانة {بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} 17 في الدنيا من إهانة نبيهم واحتقار معجزته وهي الناقة إذ عقروها فعقرهم اللّه {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} منهم مع نبيهم {وَكانُوا يَتَّقُونَ} 18 التعدي عليه وعلى معجزته فأنجيناهم معه جزاء خشيتهم عقاب اللّه الدنيوي وخوفهم عذابه الأخروي.
|